يحتوي هذا الديوان على قصائد مختارة للأخت المشيرة إرنستين خوري التي غناها مئات الطلاب والطالبات في الأعياد المختلفة، مع مجموعة من الصور التاريخية

رثاء المطران يوسف مرعي للأخت ارنستين خوري



   (تعرفون أن تميّزوا وجه الارض والسماء. أما علامات هذا الزمان فلا تميّزونها) "لوقا: 13".
   تشاء الإدارة والهيئة التعليمية، مشكورة، في هذه المدرسة المباركة أن تقيم هذه الذبيحة الإلهية لراحة نفس الرئيسة الأخت إرنستين خوري، التي غادرتنا من أربعين يوماً، وكان لغيابها وقع مذهل في كل النفوس. والكل لتساءل، إذ انها ذهبت في لحظات: ولِمَ الحياة؟ وما هو سر الموت؟ وما هو المصير؟ وما هو الانسان الذي بلحظات يغيب من الوجود وكأنه لم يكن؟ أسئلة أذهلت كل النفوس والضمائر، ولا نزال مذهولين نوعاً من خطورة هذا الحدث الاليم الذي ألمّ بالعائلة المقدسة.
   فالرب يسوع يجد الحل لكل هذه الأسئلة عندما يقول: "يا مراؤن، تعرفون أن تميّزوا وجه الارض والسماء، أما علامات هذا الزمان فلا تميّزونها". فلمَ لا تفهمون علامات هذا الزمان؟
   كل حدث أليم يطرح علينا هذا السؤال: ولِمَ حياتنا على الارض وما هو المصير؟ ما هو السر الفادي الذي يكتنفنا ويجعلنا في حيرة وقلق من حياتنا؟ فالرب يسوع، أمام هذا، يكشف لنا سر الوجود وسر الغياب. فالوجود، وجودنا، من وجوده، والانسان صورته على الارض، ويمثل شيئاً من كمالاته، وبقدر ما يكون الانسان كاملاً، يكون قريباً من الله، والمصير في يد الخالق والآخرة لا بد منها، وهنيئاً لمن عاش مع الله وفي الله حتى يكون نصيبه مع المسيح.

   وما هو سر الانسان؟ كل إنسان على هذه الارض، هو سرنا، ولا ندرك هذا السر إلا من خلال هذا الانجيل الذي تصفحناه اليوم.
   إننا في الحقيقة نقف حائرين، قلقين، لكن المسيح وحده يزيل هذا القلق، وأختنا إرنستين التي عاشت قلقة ككل إنسان، وبحثت عن الايمان الحقيقي ككل إنسان، وما آمنت إلا بعدما اقتنعت بحقيقة الانسان، وحقيقة وجود الله، وغاية هذا الوجود. لذلك علّقت قلبها بمن قال: "أنا القيامة والحياة". فهمت أن مصدر الانسان نظير سابقة فذهبت وكرست حياتها مجردة عن كل الدنيا، زاهرة بالحياة، كل الحياة، مقيدة بالنور المقدس رغم ما حباها الله من ذكاء وتوقد في الذهن، ومن معارف إنسانية بشرية. فهمت أن الموت انتقال وتحول من حالة الى حالة، فلم يرهبها الموت وهي التي كانت نوعاً مستعدة كل يوم للموت بعد ان قيل لها انها معرضة كل ساعة لفقدان الحياة. 
   كانت مستعدة عملاً بقول الرب: "لتكن اوساطكم مسدودة وسرجكم موقدة وكونوا متشبهين بأناس ينتظرون سيدهم متى يأتي من العرس". لم تحزن على من مات، ولئن تأثرت، عملاً بقول الرسول: "لا تحزنوا عليهم كسائر الناس الذين لا رجاء لهم". لما نحن ابناء الرجاء، فإننا نعلق كل آمالنا وكل رجائنا بمن قال: "انا القيامة والحياة". "ولو كان رجاؤنا، نحن المسيحيين، في هذه الحياة دون الاخرى لكنا اشقى الناس أجمعين" (أ فو: 15).
   فهمت ارنستين هذه الحقيقة وكانت ترجو الله فتستعد للسينودس من اجل لبنان الذي وضع في مقدمة الوثيقة: "المسيح رجاؤنا: بروحه نتجدد ومعا للمحبة نشهد". فهمت سر الاخوة، ان لا شيء يثبت على هذه الارض وكلنا زائلون، وكم مرة كانت تردد امامي، دون سواي، هذا الكلام الروحي مما جعلني أؤمن في داخلي ان هذه الراهبة مستعدة، كل ساعة، لملاقاة ربها. فهمت سر الآخرة فلم ترتجف بل كانت تتساءل هكذا "لو كنت اعلم قبل الاوان ماذا يوجد هناك". 
   هناك، أنا أجيب: هناك يوجد الله، يوجد القديسون، توجد العائلة المقدسة التي سبقتنا. يوجد أهلنا، أجدادنا، إخواننا، كلهم هناك لأن الانسان لا يزول، يولد ولكن لا يفنى الانسان، يحقق في حياته ما قصده الله في شأنه لأن لكل انسان نهاية. الله وضع في قلب الانسان هذه الاهداف ومن أهداف الانسان، الخلود. وكما يقول أرسطو، من المستحيل أن يكون هذا الشعور بالخلود شيئاً غريباً عن طبيعة الانسان. أجزءٌ منا الخلود؟ ـ جزءٌ من كيان الانسان ووجوده.
   اكتشفت إرنستين وفهمت تماماً الانسان الانسان، كل الانسان، كما هو صحيح نردد ونقول: ان الانسان خلق على صورة الله ومثاله. انما في الحقيقة الانسان يجسد بعض كمالات الله. والذين استطاعوا أن يجسدوا الكمال الالهي في أعلى درجته، هؤلاء هم القديسون. والراهبة التي نذرت حياتها لتكون كاملة، لتجسد كمالات الله في حياتها، هذه الراهبة تظهر بشراً لكنها في خلوتها ومع ربها تبدو وكأنها خيال يمر على هذه الدنيا. 

   طبعاً، كانت الاخت ارنستين انساناً مليئاً بالعطف والشعور مع كل انسان. كانت مكرسة لا يهمها إلا الله. كانت مربية ساهرة على الاولاد من ايام نذورها الاولى، وتنقلت من اللاذقية الى حارة حريك الى انطلياس الى هذه المدرسة في ساحل علما، ولا تعرف سوى هذه المؤسسات التي زرعت فيها الحب والفرح والسلام.
   إرنستين لا يُحزن عليها، لأنها مجىدة تعيش مع الله ولا تتقيد لشيء دنيوي، أهلها سبقوها الى الآخرة. تألمت لذلك، لكنها كانت صامدة كجبال لبنان، قيّد الله سفرة الى أستراليا فودعت أختين لها نذكرهما بالخير، وكأنه المشوار الأخير الذي تقوم به على الارض، إلى أن جاء المشوار الكبير الذي لا عودة بعده، والى اليوم تقوم بهذه السفرة الاخيرة وترحل عنا، لكن صورتها تبقى منقوشة على صدور أخواتها، على صدور عارفيها وقادري أفضالها، على قلوب من عرفها واستطاع أن ينعم ويتمتع بمعارفها.
    الكل اليوم يحزن. لكننا لا نحزن على إرنستين كسائر الناس الذين لا رجاء لهم، انما أدعوكم الى قراءة علامات الزمن. لقد توفي من اخواتنا عدد كبير. كان رحيل كل اخت من أخواتنا رسالة تنبهنا وتذكرنا بالآخرة. كلما توفيت أخت لنا نفتح سفر الحياة لنقرأ ماذا يريد الله منا، وما عملنا في حياتنا. هذا السجل يجب أن ندونه بماء الذهب حتى تكون أعمالنا كلها صالحة وتستحق عندئذ ما قاله الرب يسوع: "الذين عملوا الصالحات فإلى قيامة الحياة".
   في الأربعين صعد يسوع الى السماء، وفي الأربعين نحن نأمل أن تكون أختنا إرنستين بلغت القمة العليا ووصلت الى السماء، وأملنا كبير أن من كرّس حياته لله ولم يعش لذاته بل لغيره، بل للمسيح وحده، كلن حظه مع الابرار والصديقين. ونحن اليوم نذكر إرنستين ومعها ننشد نشيد مريم في شهر أيار: "تعظم الرب نفسي"، وكما ذهبت عنا قبل القيامة، في الصوم وفي أسبوع البذل والعطاء، نحن نتهلل معها ونقول نشيد مريم: "تتهلل روحي بالله مخلصي".
   فهنيئاً لها إلى جانب الرب يسوع، ونحن كلنا اليوم نترحم على روحها، لا بل نسأل الله أن يرأف بجمعيتها كي يؤتيها دعوات على وزنها ومن روحها.